بعد
رحلة طويلة نسبيا توقف القطار القادم من سويسرا عبر لكسمبورج عند الحدود
الألمانية في ذلك المساء من ليالي أغسطس1940,ذروة الحرب العالمية الثانية
التي أشعلها الرايخ الثالث بأفكاره النازية وديكتاتورية زعيمه أدولف
هتلر,وعلى الرغم من ان معظم ركاب القطار يتمتعون بالجنسية السويسرية
المحايدة التي لا ناقة لها بالحرب ولا جمل , الا ان التوتر سرى في ملامحهم
وأجسادهم وخفق مع دقات قلوبهم عندما صعد الى القطار رجال الجيش النازي وعلى
رأسهم ضابط من ضباط الجستابو بزيه الأسود المخيف وذلك الصليب المعقوف حول
ذراعه , وراحوا يرمقون الكل بنظرات قاسية صارمة فظة تحمل الف اتهام واتهام
حتى للنساء والشيوخ والأطفال...


**********************************

كان تفتيشا حدوديا روتينيا حتميا في وقت الحرب , الا ان
النازيين كانوا يبالغون في القيام به اي مبالغة , ويلقون القبض على كل من
تراودهم بشأنه ذرة شك واحدة , ليتعرض لأستجواب صارم عنيف سخيف قد يضطره في
أحسن الأحوال الى العودة الى سويسرا حامدا الله انه لم يلف سجون برلين
الرطبة المظلمة...


ومع فوهات المدافع الآلية , والنظرات الصارمة القاسية ، تجمد الركاب في
مقاعدهم وراحوا يتابعون حركة النازيين في حذر وعينا ضابط الجستابو الشاب
بارد الملامح تفحص وجوههم وترصد حركاتهم وسكناتهم وحتى ارتجافة جفونهم ,

وفجأة.....
توقف
ضابط الجستابو عند رجل وقور في منتصف الأربعينيات يرتدي معطفا سميكا
بأزرار مستديرة كبيرة,وانعقد حاجباه في شدة وقسوة بدت واضحة في صوته وهو
يسأله : ما اسمك وجنسيتك؟

بدا الرجل مضطربا متوترا شأن أي شخص في ظروف مشابهة , وغمغم في عصبية :
اسمي جون اندرسن , وانا سويسري الجنسية والمفروض ان دولتنا محايدة و..

قاطعه الضابط بمنتهى القسوة : ولماذا ترتدي معطف بريطاني الصنع؟

بدت الدهشة على وجه السويسري وهو يقول: أهذه جريمة؟!


صاح فيه الضابط بكل قسوة الدنيا : اجب السؤال .

ارتبك السويسري أكثر , وبدا لباقي الركاب ان الموقف سيتأزم أكثر عندما قال
اندرسن:أعلم ان المعاطف الألمانية ممتازة , ولكن هذا المعطف رخيص الثمن
ومصنوع من صوف جيد.

..هراء..

قاطعته صرخة الضابط الهادرة المباغتة وهو يستل مسدسه على نحو انتفضت معه
أجساد الركاب,ثم ألصق المسدس بصدغ السويسري وهو يجذبه من معطفه بقسوة
وخشونة مستطردا: من سوء حظك اننا نعرف ما يعنيه ارتداء معطف كهذا...


وانقضت اصابعه القاسية بغتة على أحد الأزرارمضيفا : بأزرار كهذه...

ارتجف
الوقور في عنف وبدا وكأن خصلات شعره قد ازدادوا شيبا من فرط الرعب وهو
يهتف : وما عيب الأزرار ؟ سأستبدلها بأزرار المانية لو ان هذا يريحكم.


الصق الضابط فوهة المسدس بصدغه
أكثر وهو يدير أحد الأزرار الكبيرة بأصابعه قائلا : لاتتظاهر بالبراءة
والسذاجة يا رجل...نحن محترفون , ونعلم جيدا ما يمكن اخفاءه في ازرار كبير
مجوفة كهذه , و..


وفجأة بتر عبارته وازداد انعقاد
حاجبيه في شدة وانتقلت اصابعه بحركة حادة وعصبية الى زر ثان ثم ثالث ورابع
والأخير...وبعدها احتقن وجهه بشدة وهو يغمغم في عصبية: عجبا...المفترض
ان...


بتر عبارته مرة أخرى وتراجع بحركة حادة , فلملم السويسري معطفه وهو يقول بكلمات مذعورة: هل تريدون التخلص من الأزرار ام المعطف كله؟
اعتدل الضابط وقال في عصبية: لا تتخلص من شيء.
وأشاح بوجهه عن الرجل وهو يعيد مسدسه الى غمده ليواصل جولته في القطار حتى انتهى منها فغادره وأشار لسائقه باستئناف السير....


وما ان تحرك القطار نحو برلين
وتجاوز الحدود حتى مالت العجوز المجاورة للسويسري على أذنه هامسة : لاتخجل
من ذعرك...لقد كان يواجهك انت وكاد قلبي ان يتوقف من شدة الرعب.

منحها الوقور ابتسامة متوترة قبل ان يتراجع في
مقعده ويسبل جفنيه وكأنما يحاول ازالة انفعالات اللحظة السابقة ولكن في
الواقع كانت هناك ضحكة هائلة تدوي في اعماقه...ضحكة ساخرة ولأقصى حد.......

هذا لأن ما حدث منذ لحظات كان مجرد اختبار ....
اختبار لتقنية جديدة في ذلك العالم الذي يحوي دائما كل ما هو جديد وغامض ومثير....عالم الجاسوسية..

×××××××××××××××××××××

مع بداية الحرب العالمية الثانية كان من الطبيعي ان ينشط جهاز المخابرات البريطاني المعروف بالمكتب السادس أو (
mi6)
لجمع المعلومات في كل اتجاه ونقلها من والى برلين عبر مسارات شتى تتصل
وتنقطع حسب نشاط جهاز مكافحة الجاسوسية الألماني (الجستابو) أو المخابرات
الألمانية(
sd
)....
ولأن الأمور لم تكن متطورة كما هي معروفة حاليا كان من الضروري البحث عن أساليب بسيطة وذكية لنقل الوثائق والميكروفيلم بحيث تمر تحت انف الألمان دون ان تثير شكوكهم أو شبهاتهم ..
والحقيقة ان البريطانين قد برعوا كثيرا في هذا المضمار على الرغم من
ان كل ما استخدموه آنذاك من تقنية بسيطة يعتبر الآن ساذجا للغاية لكنه كان
يومها لمحة من العبقرية الحقيقية , فقد استخدموا مقبض المظلة كمخبأ سري
لآخفاء الوثائق والصور , والولاعات وعلب السجائر وحقائب السيدات كتعمية
لآلات التصوير الصغيرة...
وبين كل هذا كانت خدعة أزرار المعاطف المجوفة...
ففي تلك الأيام كانت المعاطف تصنع من صوف ثقيل وتزود بأزرار كبيرة وجد
البريطانيين انها يمكن ان تحوي تجويفا كبيرا لآخفاء ميكروفيلم دقيق لذا فقد
بدأوا في صناعة أزرار معاطف خاصة تحوي التجويف المطلوب وأمكنهم استغلالها
بنجاح طوال النصف الأول من 1940 لنقل الميكروفيلم الذي يحوي التعليمات أو
المعلومات من والى برلين تحت سمع وبصر رجال الجستابو.
و...

ثم سقط جاسوس بريطاني في قبضة النازيين....

ومع سقوطه انكشف سر التقنية البريطانية العبقرية البسيطة الناجحة لنصف عام كامل..

وجن جنون الألمان عندما ادركوا الخدعة وعندما علموا ان المعلومة كانت تنتقل تحت سمعهم وبصرهم طوال

الوقت في صورة بريئة انيقة بل وفاخرة ايضا في بعض الأحيان...

واصابتهم عقدة ازرار المعاطف الكبيرة فراحوا يهاجمون من يرتدونها ويديرونها باصابعهم الى اليسار فانفتح

بعضها وكشفت ما بداخلها وسقط عدد اخر من الجواسيس البريطانيين..

وفي المخابرات البريطانية ادرك الرجال ان لعبتهم قد انكشفت واسفوا كثيرا لفقدانهم وسيلة مدهشة كهذه وكان عليهم ان يعتصروا اذهانهم ليجدوا وسيلة جديدة بنفس براعة الوسيلة القديمة ونفس بساطتها وشكلها الخداع.

وفي
ذلك الوقت كان هناك شاب من اسرة بريطانية عريقة يعمل في المخابرات البحرية
يملك عقلا مدهشا وخيالا جامحا طالما استفز رؤساءه الذين يجدون في النهاية
انه قابل لتتنفيذ بل وناجح ايضا لدرجة مدهشة..

( تم التنويه عن هذه الشخصيه سابقا ببعض التفصيل في موضوع صانع الجواسيس اشهر جاسوس بالعالم )

والعجيب ان الرئيس المباشر لهذا الشاب كان يثق في عقليته المدهشة وافكاره
المبتكرة ثقة مطلقة على الرغم من تاريخه الطويل الذي يحمل امثلة موجعة
للأستهتار واللامبالاة والعبث التي اشتهرت بها طبقة النبلاء في انجلترا..

ومن منطلق هذه الثقة عرض عليه رئيسه الأمر وساله:

هل تستطيع ابتكار وسيلة بارعة مماثلة كهذه يا فليمنج ؟

صمت الشاب ايان فليمنج بضع لحظات وهو يتطلع لرئيسه الذي تربطه بأسرته صداقة وثيقة قبل ان يجيب:
بكل تأكيد

ابتسم رئيسه واشار بيده قائلا:

ارنا عبقريتك اذن.

نطقها بلهجة عجيبة تجمع بين السخرية والتقدير في مزيج يصعب تقليده او القائه ولكن فليمنج الشاب لم يبال ...........

اذ كان من ذلك الطراز الذي يجمع في اعماقه بين الغرور والثقة والأعصاب
الباردة كالثلج لذا فقد حمل السؤال الى حجرة مكتبه الصغيرة ((جدا)) وأخذ
معه أحد تلك الأزرار المجوفة وراح يفتحه ويغلقه وهو يدير الأمر في رأسه
ويعتصر خلايا مخه الرمادية وفي تحد خص به نفسه لمواجهة هذا الأمر البسيط
المعقد ...

كان يحتاج لفكرة بسيطة وواضحه وانيقة وعبقرية ايضا...ولقد راح يفكر ويفكر ويفكر و.......



............... وفجأة.........................


وفجأة
قفز من مقعده وقد سطعت في ذهنه فكرة مدهشة , وامسك الزر الأجوف الكبير
وراح يحدق فيها لحظة قبل ان يختطف ورقة وقلما ويدون فيها فكرته ثم يعدو
لمكتب رئيسه المباشر ليعرض الفكرة عليه.



وكما يحدث كل مرة استنكر رئيسه الفكرة واستهجنها تماما و
وصفها انها تافهة سخيفة وستنكشف من اللحظة الأولى...الا ان فليمنج الشاب
كان عنيدا مثابرا فراح يؤيد فكرته ويضرب الأمثلة عليها ويشرحها حتى اقتنع
بها رئيسه تماما وقرر عرضها على رجال المكتب السادس فورا.

وفي مساء اليوم نفسه و بناء على طلب ضابط المخابرات البحرية البريطاني تم عقد اجتماع خاص....


و في الأجتماع شرح الرجل فكرة (آيان فليمنج)
شرحها بنفس الحماس والاقتناع الذي شرحها به الشاب نفسه , عندما كان في مكتبه من ساعات قليلة..
والواقع ان الأمر بدا كصدمة على وجوه الرجال..

ولقد وجموا جميعا على نحو عجيب , وانسدلت عليهم ستارة من الصمت و عيونهم
كلها تحدق في ضابط المخابرات البحرية الذي بدا له هذا أشبه باستهجان صامت
ستعقبه حتما عاصفة من اللوم والتقريع , لأنه اضاع وقتهم الثمين في فكرة
حمقاء كهذه....................




ولكن.......

و لكن سير ( سنكلير ) أشهر وابرع واعرق رجال المخابرات البريطانية في ذلك الحين كان أول من رفع ستارة الصمت قائلا :

فكرة عبقرية.

هنا فقط تنفس ضابط المخابرات البحرية الصعداء و استعاد نشاطه الأول وهو يهتف :
و بسيطة ايضا.

و أضاف اخر : و لن تخطر ببال الألمان ابدا

أشار سير سنكلير بيده قائلا : لا يمكنك الجزم ....


مع عبارته انسدلت ستارة الصمت مرة أخرى واستدارت العيون كلها اليه , فتابع في حزم :

لا بد من تجربة الفكرة عمليا.


و هكذا تقرر وضع فكرة ( ايان فليمنج ) موضع
التنفيذ و دفعها لتجربة عملية عن طريق ذلك العميل السويسري الذي قدم نفسه
لضابط الجستابو باسم ( جون اندرسن ).


وسافر ( اندرسن ) من برن الى برلين و هو يحمل تلك الوسيلة الجديدة التي تفتق عنها ذهن (قليمنج )

وواجه ضابط الجستابو مباشرة...

الا انه لم يكشف امره ... ابدا ...

×××××××××××××××××××××××××××××××××××

و فور استقراره في برلين ابرق (اندرسن ) الى عمته في لوزان ليطمئنها على سلامة الوصول..
وكانت هذه البرقية تعني ان الخدعه قد نجحت وان فكرة (فليمنج ) قد عبرت الحدود بتفوق ...

و عندما استدعى ضابط المخابرات البحرية مرؤوسه الشاب ليبلغه بنجاح فكرته , ابتسم هذا الأخير في ثقة قائلا :

كنت اعلم هذا.

و الواقع ان الفكرة كانت مدهشة بحق , اذ ان كل ما فعله (فليمنج ) الشاب ان عكس اتجاه فتح الأزرار المجوفة ......!!!!!!!!!

فقط عكس الاتجاه , بحيث عندما يحاول الألمان فتحها , يكونون قد احكموا اغلاقها ....

و لقد اعتمد الشاب في فكرته هذه على ما يعرف باسم ((( الفعل الشرطي المنعكس )))
, اذ ان الألمان قد كشفوا خدعة الأزرار المجوفة , و تدربوا على كشفها ,و
اعتادت ايديهم ادارتها الى اليسار لفتحها عند شكهم في امرها,,, اذن كل ما
عليه ان يجعل اتجاه فتحها الى اليمين و ليس الى اليسار ,


و لن تنتبه اصابعهم المدربة الى هذا ابدا....


و لقد كان تقديره سليما الى درجة مدهشة , و لم
تنكشف خدعة الأزرار التى تفتح عكس اتجاهها الا مع سقوط عميل آخر في اوائل
عام 1945 و قبل انتهاء الرايخ الثالث بأشهر قليلة.



و المدهش ان (( آيان فليمنج )) الذي تحول بعد نهاية الحرب الى كاتب روائي و ابتكر أشهر شخصية في عالم الجاسوسية العالمية ( جيمس بوند ) لم يستخدم هذه الفكرة في رواياته ابدا ....


ربما لأنها بسيطة للغاية و لن تبهر القارئ , أو المشاهد فيما بعد ...

أو لأنه كان يوما رجل مخابرات محترفا , يدرك جيدا القواعد...


قواعد اللعبة...


لعبة الجاسوسية ...